شبكة أخبار كيكان -عام 2010 وأثناء تحضيري لبرنامج سياسي اخباري أخطرني المنتج بأن ديبلوماسياً سوريا سيكون ضيفك في الاستديو بقناة “الحوار” اللندنية، فوجئت بدخول شاب طويل القامة أنيق الهيئة والطلعة يتقن الإنكليزية والفرنسية فإذا هو جهاد مقدسي الناطق باسم سفارة سورية في لندن آنذاك.
وبعد البرنامج قلت له: يناسبك أن تكون ناطقاً باسم الحكومة السورية.. رد ببساطة: اتركها لربك أنا أتكلم عبر الاعلام الغربي والعربي على مسؤوليتي الشخصية وبموافقة د. سامي الخيمي (السفير السوري) ولا أحد يحميني.
دارت الأيام واندلعت الثورة السورية العظيمة، انقطع جهاد مقدسي عن الإعلام بشكل نهائي، اللهم الا من اتصال هاتفي عندما اتصلت امرأة درعاوية تبكي قتل النظام لأهلها واخوتها ففوجئنا باتصال منه على الهواء وبمبادرة شخصية، وكان متأثراً يطمئن هذه المرأة أن الدولة ستحاسب المذنبين، ومن أجرم بحق الشعب في درعا.. ثم قاطع القناة بشكل نهائي بعد انحيازها للثورة السورية بكل معانيها إذ أنه موظف بنهاية المطاف.
الى أن تم استدعاء المقدسي من الرئيس السوري شخصياً بعد اقتراح من عم الرئيس فواز الأخرس والسفير سامي الخيمي بضرورة أن يكون للدولة واجهة اعلامية، وتم ترشيح المقدسي لذلك وقضي الأمر.
حاول المقدسي في بداية مهمته أن يكون ناطقاً باسم الدولة السورية (كما كان يتخيل) واستخدم لغة تصالحية (أقل تشبيحاً.. وبعضُ الشر أهون من بعض)، لكن محاولاته باءت بالفشل ليكون ناطقاً باسم القتل والإجرام وتبريره ومغالطة الحقائق ومعاكستها (مجزرة الحولة مثلا، رغم انه أصر أن يتلو نتائج التحقيق شخص عسكري وهو رئيس اللجنة، وقد سبب له ذلك اشتباكا مع رموز النظام، فيما هو أجاب على أسئلة الصحافيين) ليستحضر الناس فيه بعدها لحد ما موسى ابراهيم (الأسد) جديد مع فارق الطول ونوعية اللغة.
في نهاية شهر 7 من العام المنصرم وأثناء مشاهدتي على “الجزيرة” لموجة انشقاق السفراء السوريين وعدد من الديبلوماسيين خلال فترة 10 أيام خطر ببالي أن أرسل له عبر الايميل رسالة بأن يحذو حذوهم ويتخذ موقفا تاريخيا يعلن فيه انشقاقه عن النظام ويلتحق بصفوف الثورة.. لم يرد لا سلباً ولا ايجاباً الا بعبارة على الخاص من حسابه على تويتر (انشالله خير!)، وقد كان آخر مؤتمر صحافي عقده في تموز من العام الماضي ولم يعقد بعدها أي مؤتمر رسمي.
بعدها وتحديدا بتاريخ الثلاثين من أكتوبر بعد عيد الأضحى طلب المقدسي رقم هاتفي البريطاني فأرسلته له عبر ايميل وائرها بدأ يحادثني بين الفينة والأخرى عبر نظام “الوتس أب” من رقمه السوري عن الواقع المر الذي يعيش فيه النظام السوري وعن حالته النفسية المتعبة جراء الحلقة المفرغة التي تدور فيها سورية بكل أطيافها ومشاربها من تدمير للبلد وقتل للوطن.. كان يحاور بعقلية الباحث عن الحل في الوضع الراهن.. قلت له ان الحل يكمن في أن تحاول اقناع الأسد أن يتخلى عن السلطة لأن البلد بحالة تدمير كلي وممنهج.. كان يقول لي: نيال الفلاح.. نيال اللي بيشتغل في الزراعة هالأيام! ثم سألني الرأي بتخليه عن منصبه وتفرغه للعمل الأكاديمي في الجامعة، قلت له بالحرف و(كله موثق): انت في محرقة.. وهكذا الى تاريخ التاسع من نوفمبر من العام المنصرم قبيل تسريب انشقاقه بعشرين يوما أرسل العبارة التالية: (ادعيلي…) أتبعها برسالة بنفس اللحظة يقول فيها وبالحرف (أنا عم خبرك منشان اذا صرلي شي بتكون بتعرف موقفي أنا مع الناس.. وما بدي شي بالمقابل من حدا.. آخر الشهر منحكي.. هل الكلام الك وأرجو محي المحادثة.. أهلي كاسرين ظهري.. والمهم نرضي الله فقط.
وهكذا بقيت على تواصل معه الى تاريخ السادس والعشرين من نوفمبر قبيل انشقاقه بأيام قليلة لينقطع عن العالم نهائيا في الثلاثين من نوفمبر.. وفوجئت مثلي مثل كل الناس بإعلان انشقاقه بعدها بيومين وبادرت بشكل (مستعجل) بتأكيدي عبر صفحتي الشخصية بـ”فيس بوك” على ما أشيع عن المقدسي أنه أخطرني بأنه مع الناس.. مما سبب لي بانهمار مئات من الرسائل ممن ينظر الى انشقاقه بعين الرضا ومن بعين السخط، ومنهم من تعاطى معي على أنني ثائر وليس صحافيا مناصرا لثورة بلاده! وتواصلي مع المقدسي ضرب من الخيانة والعمالة وأشياء كثيرة.. وقضي الأمر.
الى أن اتصل بي ضابط في القيادة المشتركة للجيش الحر في منطقة التضامن (مهندس رائد) يسألني عن المقدسي، وقال إن الأخير كان ينسق معه على مدى أربعة أشهر عرض عليه امكانية مساعدة أهله بالخروج من سورية، وقال لي إن الشخص الوسيط (للأسف) تم اعتقاله بتاريخ 26 نوفمبر، وأخشى أن يكون النظام قد عرف عن تواصل المقدسي معي لانه كان عبر الهاتف، فألقى القبض عليه أيضا..
كنت لا أريد الخوض في هذا الموضوع ونشر خفاياه مخافة أن يكون المقدسي في قبضة حزب الله أو النظام السوري.. لكن المقدسي بعد فترة قصيرة علمت انه – وأؤكد أنه موجود في دولة عربية.
أرسلت له مجدداً أنه من الضرورة بمكان أن يخرج عبر الإعلام ويعلن موقفاً صريحا وواضحاً.. ويأخذ بخواطر الناس اعتذارا من المظلومين المقهورين الذين سامهم النظام سوء العذاب.
وفقاً لمعلوماتي لم يساعد جهاد مقدسي في الخروج من سورية – وليس من لبنان – أي جهاز مخابرات غربي او عربي او اجنبي، بل كانت شخصية سورية مرموقة داعمة للحراك الثوري هي من قدمت له المساعدة للخروج لكي يبحث عن عمل وحياة جديدة.
كان بإمكان المقدسي التوجه لأي سفارة غربية ويتم احتضانه فوراً وتسفيره بشكل فوري، ورغماً عن أنف الجميع في لبنان مثلاُ.. لكنه لم يفعل.. قدمت له عروض كثيرة ورعاية له ولعائلته ليتخذ موقفاً مسانداً للثورة من قبل جهات داعمة لها وليس لها أي أجندة سياسية، لكنه رفض أن يأخذ شيئا مقابل موقفه سوى خروجه من المشهد لكي لا يكون موقفه مدفوعا وأنه قفز… وأيضاً ليكون مستقلاً بمعارضته لسياسات النظام (فهو لا يعرف أحدا من معارضة الخارج)، كما علمت.. واتخذ هذا الموقف في الوقت بدل الضائع رغم أن المجتمع الدولي ما زال غير جاد بإنهاء المأساة السورية.. والعاقل من أدرك نفسه قبل بطش الثورة به، لأنها ثورة حق وعدل وتسامح.
وكان السفير الامريكي روبرت فورد، المسؤول عن الملف السوري في الادارة الامريكية قال ان المقدسي موجود فعلا في الولايات المتحدة بصفة لاجئ، لكن متحدثا باسم الخارجية الامريكية نفى ذلك.
لست في موقف الدفاع عن المقدسي اطلاقاً، ولطالما وجهنا سهاما له في تغطياتنا الإخبارية عندما كان في صف الظالمين، لكن حالته تستحق الوقوف عندها كموظف مدني موجود في الداخل في ظل نظام قاتل (ونعلم معنى ذلك) وخرج بقرار شخصي.. فهو من أقلية مسيحية يرى أغلبها أن خطراً داهماً يهددها، والاقليات لا تلعب أكثر من دور الأغلبية المغيبة التي لا تناصر الثورة ولا تقف مع الأسد.. حالها حال أغلب الأقليات في سورية في حقيقة مرة.
أرادوه أن يكون واجهة النظام الذي يقمع الشعب ويقتل الأبرياء أمام العالم وكان شاطراً في أداء دوره، وحين يغادر هذا الإنسان جانب الظالم ليكون مع الناس المظلومين وفقاً لخصوصيته ودون مطمع أو مطلب، فهذه فرصة لكي توجه الثورة الرسالة للداخل بأن الثورة جوهرها الشراكة واحتضان الناس العقلاء لكي تبدأ مرحلة جديدة في سورية، يشارك فيها في كنس دمارها وبناء بنيانها العمراني والثقافي والفكري والاجتماعي كل السوريين.. وأن تثور متأخراً خيرٌ من ألا تثور أبداً.. ونرقب ظهور (المقدسي المنتظر) قريبا.
لندن ـ “القدس العربي” ـ من موسى العمر:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك معنا برأيك