شبكة أخبار كيكان - بقلم: علي الجزيري
الاستلاب لغة، هو الاختلاس أو انتزاع شيء ما عنوة من الغير، و اصطلاحاً هو تماهي المقهور/المضطَّهَد بالقاهر/المضطَّّهِد، إلى درجة تمثل قيمه، مفاهيمه، سلوكه، عاداته، تقاليده، ثقافته وربما هويته، أو تبني المقهور لغة القاهر وطراز معيشته في المأكل والمشرب والملبس. هذه الحالة، تؤدي في النهاية إلى نشوء علاقة بين الطرفين أو النقيضين(الغالب والمغلوب) وفق الترسيمة الخلدونية، بحيث يغدو فيها الأخير مدجَّناً وفق كل المعايير، ويتيه في متاهات العراك السياسي العقيم أو الجدل البيزنطي.
في ظل علاقة القامع بالمقموع الموصوفة هذه، والشبيهة بعلاقة السيد بعبده، والتي تفتقر إلى أدنى درجات العدل الانساني؛ تتعاظم مشكلة التماهي بالمستبد، حتى يغدو المقموع عاجزاً عن إحداث أي تغيير في علاقة الاستلاب السالفة الذكر، فيستسلم كرهاً أو طوعاً لخطاب القامع وأحاجيه وتبريراته اللامنطقية، ويقرأ الحدث بمنظاره أو يواظب على الوقوف في خندقه واعادة انتاج خطابه البائس وسياسته التكفيرية، وربما تسويقها ومن ثم الترويج لها.
ففي روما القديمة مثلاً، كانت الفتيات يُسَرِّحْنَ شعورهن وفق تسريحة ذيل حصان الامبراطور(كاليغولاCaligula )، المشهور بجنونه واستبداده، حتى بدا الأخير يشعر بالغيرة من حصانه !.
هذا ماكان عليه واقع السوريين بحق، منذ تسنم حزب البعث للسلطة في إنقلاب عسكري، وإلى أن خرج المارد(الشعب) من قمقمه، واجتاز جدار الخوف.
أولاً ـ واقع الكردي:
حين نتناول الأنماط السلوكية للسوريين عموماً، فاننا نود ازاحة النقاب عن سيكولوجية القهر المتبلورة لديهم في ظل ثقافة "البعث" السائدة، أعني ثقافة العبودية والكراهية والتمييز بين أبناء الوطن الواحد، تلك التي اختزلت التاريخ وشوهته وسطّحت تضاريس الجغرافيا ونخرت القيم الوطنية، و ضربت بحقوق الشعب الكردي المشروعة عرض الحائط بشكل يثير الاستغراب والاستهجان في آن. كما نود في سياق هذه المقالة، كشف الستار في المآل الأخير، عن مقدار الاستلاب الذهني الذي عاناه السوريون على يد مضطَّهِديهم، ناهيك عن السياسة المقيتة التي أثقلت كاهلهم ولجمت إرادتهم التواقة للحرية والكرامة طيلة عقود.
أعود فأقول، إن تعزيز ظاهرة الاستلاب السالفة الذكر لدى الكرد، أفراداً ونخباً، تمّت من خلال وسائل متنوعة، بغية اعادة انتاج أنساق من التفكير تتناسب وديمومة علاقة القهر هذه أو الترويج لتلك الجوانب التي تعكس الوعي المستلب، وتسطيح تضاريس الواقع المزري وتدجين الكرد وتمزيقهم وعزلهم عن الآخرين وبناء الأسوار بين مكونات الشعب السوري، إلى الحد الذي كان فيه لسان حال المواطن يُردّد تلقائياً:"ليس بالامكان أكثر مما كان". ولكي ندرك أبعاد تلك السياسة التي ينتهجها النظام، علينا تأمل ما قالته اللاجئة الألمانية حِنّا أرندت، الفارّة من النازية في إحدى كتبها:(الارهاب لا يمكن أن يحكم البشر باطلاق إلا إذا كانوا معزولين عن بعضهم، ولذلك فانه من أولويات حكم الطغيان هي إحداث هذه العزلة). علاوة على هذا، تمكن النظام الشمولي(التوتاليتاري) تصريف التوتر والاحتقان المتراكم في الشارع الكردي المقموع جزئياً، من خلال غرقه في متاهات الحياة اليومية، أو جعله يتخبط في عالم خرافي مُنْتَج من لدن فقهاء الظلام(أمثال البوطي)، ممن انكبوا على فبركة الفتاوى أو نسج وَهْمٍ يحلم من خلاله الكردي بجنته الموعودة. على هذا النحو، نجح النظام الذي شوّه البشر والحجر على حد قول سليم بركات، من إحداث شرخٍ في جدار الوحدة الوطنية بعد نخره من الداخل، عبر خططه الجهنمية ومشاريعه الشوفينية(التعريب والحزام والاحصاء...الخ)، تلك التي استهدفت تفقير وتجويع وترهيب الكرد وتهميشهم، وارغامهم على التهجير أو صهرهم في بوتقة القومية العربية، عبر خلق أجواء من العوز والكآبة و التشاؤم والتزلف والكراهية والاستعداء، بين مكونات الشعب السوري قاطبة. أَلمَ ْ يَقُلْ أحد الطغاة يوماً:
سأحرمكم حتى يذل صعابكم وأبلغ شيء في صلاحكم الفقر
بيد أن ظاهرة الاستلاب هذه، والتي ترسخت في الوعي الجمعي، انعكست في المحكيات/المرويات والأمثال الدارجة، بعد أن تم توظيفها بالشكل المطلوب، لحضّ الكردي على النكوص والاستكانة والحدّ من نزعة التحرر لديه؛ وثمة شواهد على هذا الصعيد وعلى سبيل المثال لا الحصر، كالدعوة إلى التحلي بصبر أيوب والترويج لها، تلك التي ابتلينا بها في ظل الظروف المزرية التي نعيشها، لأن(الله يمهل ولا يهمل)، أو العبارة التحذيرية التالية:امشِ الحيط الحيط، وقُلْ ياربي سترك. وثمة مفاهيم أخرى دَرَجَوا على ترديدها، تَصِفُ الكردي بالطيب أو بصاحب السلوك الحسن، والتي لا تُخفى دلالاتها الاستلابية على كل ذي بصيرة، كونها تدعو إلى المزيد من الخضوع والخنوع والاذلال، في ظل نظام جائر، يسعى بشتى السبل إلى تمويه أو اخفاء مأساة الكردي وإلهائه بخزعبلات ما أنزل الله بها من سلطان، أو صرفه عن مجرد التفكير في تغيير واقعه المزري على النحو المطلوب؛ لكن ما زاد الطين بلة، أن بعض النخب الكردية، من سياسية وثقافية واجتماعية، المنبهرة بمثل هذه الأَدْلوجَة أو تلك، التي طبّل البعث لها وزمّر طيلة عقود، انهمكت في الاعتكاز على مقولة"الواقعية السياسية" أو "الاعتدال في السياسة" والترويج لها في المحافل بشتى السبل، كي تبرر تقاعسها وتسوِّغ مواقفها المواربة وترددها المريب، مما أفضى هذا التبرير في النهاية إلى تنصلها من واجبها ومسؤوليتها التاريخية.
لكن هذه السياسة المحبوكة بامعان في أروقة الأجهزة الأمنية، لم تنطلِ على أحد بل خلقت إمتعاضاً في الشارع الكردي من جهة، وشغفاً لدى جيل الشباب بلغ حدّ التهكم بالطُرَفِ أو السخرية اللاذعة من طغاته ليشفي بها غليله، أو قذف النفس بالدعابة الشفافة من جهة أخرى. فيُحكى عن أحد سكان عامودا ـ بلدة كردية تشتهر بِمُلَحِها وفكاهاتها ـ حين إعتقلته أجهزة الأمن، أن المسكين ضرَّط في وجه جلاده بعد أن تلقى منه ضرباً مبرحاً، فنهره الجلاد وقذفه بوابل من الشتائم والسباب، لكنه ردَّ على جلاده على الفور: أبَكَمْتِمونا(أي أغلقتم أفواهنا) يا ناس، ثم تبغون سدَّ مؤخراتنا !.
ثانياً ـ واقع العربي:
أما العربي، فقد أُبْتُليَ هو الآخر بظاهرة الاستلاب هذه، بقدر إبتلاء نظيره الكردي، إذْ دُجّنَ إلى الحد الذي غضَّ فيه الطرف عن معاناة أخيه الكردي، وربما كان يتلذذ بمأساته أو يرى ما يجري بجواره أمراً طبيعياً، بعد أن انطلت عليه روايات النظام وترّهاته التي كانت تُحاك باحكام حول القضية الكردية وتاريخها، حتى أضحى العربي أحد ضحايا هذا النظام، لا نفرق في هذا الأمر بين(الموالاة) الممسوخة أصلاً، والتي كانت ومازالت ترى بمنظار المستبد وتصطف إلى جانبه وتسوغ سياسته وتردد كالببغاء مقولاته، و(المعارضة) التي ألِفَتْ القهر والهوان، وتنصلت هي الأخرى من مهامها النضالية و واجبها الوطني في ظل تبريرات خادعة وذرائع واهية، ناهيك عن لامبالاتها المقيتة إزاء محنة الكردي المضطَّهَد.
في كتابه القيّم(حَيْوَنة الانسان)، أورد ممدوح عدوان طُرفة لا تُخفى دلالاتها الاستلابية على أحد، تناول من خلالها ظاهرة اللامبالاة السالفة الذكر، فحين تتحطم طائرة تحمل على متنها رياضيين في جبال الأنديز، وبعد أن ينتهى كل ما لدى الناجين من طعام وهم محاصرون في تلك الجبال الجليدية تحت العواصف الثلجية، ينصحهم أحد زملائهم، وهو طالب طب، أن عليهم ان يتناولوا البروتين لكي يتمكنوا من مقاومة البرد ومن البقاء على قيد الحياة. ولم يكن هناك أي مصدر للبروتين إلا جثث زملائهم وأهلهم الذين قتلوا في الحادث. من هنا إقتضى الأمر الاسراع بنبش الجثث، لأن تراكم الثلوج وضعفهم المتزايد سيزيدان في صعوبة الوصول إلى هذه الجثث آجلاً. وبعد حين، تصل النجدة(طائرة هليوكوبتر)، وعندما يتأمل الطيار الأحياء الناجين والمكان، يرى أمامه عظاماً آدمية متناثرة على مدى البصر، وكأن قطيعاً من الوحوش المفترسة قد داهم تجمعاً بشرياً، فاستغرب الطيار، لكن الأحياء استغربوا بدورهم من استغرابه، فقد أكلوا كل جثة استطاعوا إخراجها من الثلوج، وبين الجثث أهلهم وأولادهم وزوجاتهم كما أسلفنا. لقد استغربوا من استغرابه لأنه لم يتعود، بينما هم تعودوا على الأمر وتآلفوا معه. أجل، فقد مات فيهم شيء حتى تعَوَّدوا على ما يجري دون مبالاة !... وها أنذا بدوري أتساءل، طالما أن الشيء بالشيء يُذكر: ألم يستأصل هذا النظام في شريكنا العربي، الذي عُرِفَ عنه بالنخوة، شيئاً من هذا القبيل تجاه محنة أخيه الكردي طيلة عقود خلت ؟.
قصارى القول، نحنُ اليومَ جميعاً، محكومون بالأمل على حد قول سعدالله ونوس، ومدعوون للتأمل بعيني زرقاء اليمامة، لبناء غدٍ أكثر إشراقاً وألقاً لفلذات أكبادنا، وهذا يقتضي بداية، التحلي بروح التسامح والتفاهم بين جميع أطياف الشعب السوري، على إختلاف ملله ونحله، ونبذ ثقافة "البعث"المدَمِّرَة، القائمة على تخوين المختلف، ونسف مرتكزاتها المترسخة في أشد الفترات شؤماً في تاريخ سوريا الحديث، أعني الحقبة التي أضحى الانسان فيها أسير أوهام ايديولوجية(يتامى البعث) ومن والاهم في جبهتم العتيدة، و خطاباتهم البائسة التي كان يبثها إعلامهم المزيف أو تروج لها أبواقهم، زاعمة تارة أن سوريا هي جبهة الصمود والتصدي وتارة أخرى أنها قلعة المقاومة أو الممانعة، إلى آخر هذه التُرّهات التي أبتلي بها السوريون خلال عقود. ولعلنا أحوج ما نكون اليوم، لبناء ثقافة بديلة، تقوم على أساس الاعتراف بالآخر، وفق قيم ومبادىء المساواة والعدل والحرية والكرامة والتآخي، كيلا نخيّب آمال الجماهير الثائرة في وجه نظام الاستبداد والطغيان والعبودية، وهي تهدر بملء حناجرها صباح مساء: (واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد). لكنْ، علينا ألاّ ننتظر الغد الموعود والمأمول، لأنه لن يطل علينا إلا بالشكل الذي سنصوغه منذ الآن وبالشكل الذي نرتئيه. من هنا، فنحن مسؤولون تاريخياً عن مستقبل أجيالنا القادمة، التي ستحكم علينا بما ستصنعه أيدينا من أجل غدهم المنتظر.
غني عن البيان أن نتعظ بعبرة غابرييل غارسيا ماركيز، حين مرّت عليه ذات يوم أزمة مالية، فأراد أن يتصرف بحُلي شريكته لتجاوز المحنة، لكن المجوهراتي الذي تسلم منه أقراط الألماس وعقد الزمرد وخواتم الياقوت، تلك التي تلقتها زوجته(ميرثيدس) بدورها من أهلها عبر السنين، وبعد فحصها بصرامة طبيب جراح حاذق، أعادها إليه بحركة فيرونيكية**، وهو يقول: هذه كلها مجرد قطع زجاج !.
فكان وَقْعُ الخبر كالصدمة بالنسبة لماركيز ... حريٌ بنا إذاً أن نتساءل بدورنا في الختام: هل سيخيب البديل القادم آمالنا، طالما أن قَدَرُ الثورات أن تُخْتَطف على حَدِّ وصف ابراهيم الكوني؟. سؤال قد لا أتمكن من الاجابة عليه الآن، لكنْ أطرحه برسم الاجابة ليس إلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عنوان قصيدة للشاعر(غونتر غراس)، ارتأيت أن أقتبسه، لما له من صلة بموضوعنا.
** حركة مصارع الثيران، حين يمسك فيها الرداء الأحمر من طرفيه بكلتا يديه، كي يتفادى ضربات الثور الهائج.
الاستلاب لغة، هو الاختلاس أو انتزاع شيء ما عنوة من الغير، و اصطلاحاً هو تماهي المقهور/المضطَّهَد بالقاهر/المضطَّّهِد، إلى درجة تمثل قيمه، مفاهيمه، سلوكه، عاداته، تقاليده، ثقافته وربما هويته، أو تبني المقهور لغة القاهر وطراز معيشته في المأكل والمشرب والملبس. هذه الحالة، تؤدي في النهاية إلى نشوء علاقة بين الطرفين أو النقيضين(الغالب والمغلوب) وفق الترسيمة الخلدونية، بحيث يغدو فيها الأخير مدجَّناً وفق كل المعايير، ويتيه في متاهات العراك السياسي العقيم أو الجدل البيزنطي.
في ظل علاقة القامع بالمقموع الموصوفة هذه، والشبيهة بعلاقة السيد بعبده، والتي تفتقر إلى أدنى درجات العدل الانساني؛ تتعاظم مشكلة التماهي بالمستبد، حتى يغدو المقموع عاجزاً عن إحداث أي تغيير في علاقة الاستلاب السالفة الذكر، فيستسلم كرهاً أو طوعاً لخطاب القامع وأحاجيه وتبريراته اللامنطقية، ويقرأ الحدث بمنظاره أو يواظب على الوقوف في خندقه واعادة انتاج خطابه البائس وسياسته التكفيرية، وربما تسويقها ومن ثم الترويج لها.
ففي روما القديمة مثلاً، كانت الفتيات يُسَرِّحْنَ شعورهن وفق تسريحة ذيل حصان الامبراطور(كاليغولاCaligula )، المشهور بجنونه واستبداده، حتى بدا الأخير يشعر بالغيرة من حصانه !.
هذا ماكان عليه واقع السوريين بحق، منذ تسنم حزب البعث للسلطة في إنقلاب عسكري، وإلى أن خرج المارد(الشعب) من قمقمه، واجتاز جدار الخوف.
أولاً ـ واقع الكردي:
حين نتناول الأنماط السلوكية للسوريين عموماً، فاننا نود ازاحة النقاب عن سيكولوجية القهر المتبلورة لديهم في ظل ثقافة "البعث" السائدة، أعني ثقافة العبودية والكراهية والتمييز بين أبناء الوطن الواحد، تلك التي اختزلت التاريخ وشوهته وسطّحت تضاريس الجغرافيا ونخرت القيم الوطنية، و ضربت بحقوق الشعب الكردي المشروعة عرض الحائط بشكل يثير الاستغراب والاستهجان في آن. كما نود في سياق هذه المقالة، كشف الستار في المآل الأخير، عن مقدار الاستلاب الذهني الذي عاناه السوريون على يد مضطَّهِديهم، ناهيك عن السياسة المقيتة التي أثقلت كاهلهم ولجمت إرادتهم التواقة للحرية والكرامة طيلة عقود.
أعود فأقول، إن تعزيز ظاهرة الاستلاب السالفة الذكر لدى الكرد، أفراداً ونخباً، تمّت من خلال وسائل متنوعة، بغية اعادة انتاج أنساق من التفكير تتناسب وديمومة علاقة القهر هذه أو الترويج لتلك الجوانب التي تعكس الوعي المستلب، وتسطيح تضاريس الواقع المزري وتدجين الكرد وتمزيقهم وعزلهم عن الآخرين وبناء الأسوار بين مكونات الشعب السوري، إلى الحد الذي كان فيه لسان حال المواطن يُردّد تلقائياً:"ليس بالامكان أكثر مما كان". ولكي ندرك أبعاد تلك السياسة التي ينتهجها النظام، علينا تأمل ما قالته اللاجئة الألمانية حِنّا أرندت، الفارّة من النازية في إحدى كتبها:(الارهاب لا يمكن أن يحكم البشر باطلاق إلا إذا كانوا معزولين عن بعضهم، ولذلك فانه من أولويات حكم الطغيان هي إحداث هذه العزلة). علاوة على هذا، تمكن النظام الشمولي(التوتاليتاري) تصريف التوتر والاحتقان المتراكم في الشارع الكردي المقموع جزئياً، من خلال غرقه في متاهات الحياة اليومية، أو جعله يتخبط في عالم خرافي مُنْتَج من لدن فقهاء الظلام(أمثال البوطي)، ممن انكبوا على فبركة الفتاوى أو نسج وَهْمٍ يحلم من خلاله الكردي بجنته الموعودة. على هذا النحو، نجح النظام الذي شوّه البشر والحجر على حد قول سليم بركات، من إحداث شرخٍ في جدار الوحدة الوطنية بعد نخره من الداخل، عبر خططه الجهنمية ومشاريعه الشوفينية(التعريب والحزام والاحصاء...الخ)، تلك التي استهدفت تفقير وتجويع وترهيب الكرد وتهميشهم، وارغامهم على التهجير أو صهرهم في بوتقة القومية العربية، عبر خلق أجواء من العوز والكآبة و التشاؤم والتزلف والكراهية والاستعداء، بين مكونات الشعب السوري قاطبة. أَلمَ ْ يَقُلْ أحد الطغاة يوماً:
سأحرمكم حتى يذل صعابكم وأبلغ شيء في صلاحكم الفقر
بيد أن ظاهرة الاستلاب هذه، والتي ترسخت في الوعي الجمعي، انعكست في المحكيات/المرويات والأمثال الدارجة، بعد أن تم توظيفها بالشكل المطلوب، لحضّ الكردي على النكوص والاستكانة والحدّ من نزعة التحرر لديه؛ وثمة شواهد على هذا الصعيد وعلى سبيل المثال لا الحصر، كالدعوة إلى التحلي بصبر أيوب والترويج لها، تلك التي ابتلينا بها في ظل الظروف المزرية التي نعيشها، لأن(الله يمهل ولا يهمل)، أو العبارة التحذيرية التالية:امشِ الحيط الحيط، وقُلْ ياربي سترك. وثمة مفاهيم أخرى دَرَجَوا على ترديدها، تَصِفُ الكردي بالطيب أو بصاحب السلوك الحسن، والتي لا تُخفى دلالاتها الاستلابية على كل ذي بصيرة، كونها تدعو إلى المزيد من الخضوع والخنوع والاذلال، في ظل نظام جائر، يسعى بشتى السبل إلى تمويه أو اخفاء مأساة الكردي وإلهائه بخزعبلات ما أنزل الله بها من سلطان، أو صرفه عن مجرد التفكير في تغيير واقعه المزري على النحو المطلوب؛ لكن ما زاد الطين بلة، أن بعض النخب الكردية، من سياسية وثقافية واجتماعية، المنبهرة بمثل هذه الأَدْلوجَة أو تلك، التي طبّل البعث لها وزمّر طيلة عقود، انهمكت في الاعتكاز على مقولة"الواقعية السياسية" أو "الاعتدال في السياسة" والترويج لها في المحافل بشتى السبل، كي تبرر تقاعسها وتسوِّغ مواقفها المواربة وترددها المريب، مما أفضى هذا التبرير في النهاية إلى تنصلها من واجبها ومسؤوليتها التاريخية.
لكن هذه السياسة المحبوكة بامعان في أروقة الأجهزة الأمنية، لم تنطلِ على أحد بل خلقت إمتعاضاً في الشارع الكردي من جهة، وشغفاً لدى جيل الشباب بلغ حدّ التهكم بالطُرَفِ أو السخرية اللاذعة من طغاته ليشفي بها غليله، أو قذف النفس بالدعابة الشفافة من جهة أخرى. فيُحكى عن أحد سكان عامودا ـ بلدة كردية تشتهر بِمُلَحِها وفكاهاتها ـ حين إعتقلته أجهزة الأمن، أن المسكين ضرَّط في وجه جلاده بعد أن تلقى منه ضرباً مبرحاً، فنهره الجلاد وقذفه بوابل من الشتائم والسباب، لكنه ردَّ على جلاده على الفور: أبَكَمْتِمونا(أي أغلقتم أفواهنا) يا ناس، ثم تبغون سدَّ مؤخراتنا !.
ثانياً ـ واقع العربي:
أما العربي، فقد أُبْتُليَ هو الآخر بظاهرة الاستلاب هذه، بقدر إبتلاء نظيره الكردي، إذْ دُجّنَ إلى الحد الذي غضَّ فيه الطرف عن معاناة أخيه الكردي، وربما كان يتلذذ بمأساته أو يرى ما يجري بجواره أمراً طبيعياً، بعد أن انطلت عليه روايات النظام وترّهاته التي كانت تُحاك باحكام حول القضية الكردية وتاريخها، حتى أضحى العربي أحد ضحايا هذا النظام، لا نفرق في هذا الأمر بين(الموالاة) الممسوخة أصلاً، والتي كانت ومازالت ترى بمنظار المستبد وتصطف إلى جانبه وتسوغ سياسته وتردد كالببغاء مقولاته، و(المعارضة) التي ألِفَتْ القهر والهوان، وتنصلت هي الأخرى من مهامها النضالية و واجبها الوطني في ظل تبريرات خادعة وذرائع واهية، ناهيك عن لامبالاتها المقيتة إزاء محنة الكردي المضطَّهَد.
في كتابه القيّم(حَيْوَنة الانسان)، أورد ممدوح عدوان طُرفة لا تُخفى دلالاتها الاستلابية على أحد، تناول من خلالها ظاهرة اللامبالاة السالفة الذكر، فحين تتحطم طائرة تحمل على متنها رياضيين في جبال الأنديز، وبعد أن ينتهى كل ما لدى الناجين من طعام وهم محاصرون في تلك الجبال الجليدية تحت العواصف الثلجية، ينصحهم أحد زملائهم، وهو طالب طب، أن عليهم ان يتناولوا البروتين لكي يتمكنوا من مقاومة البرد ومن البقاء على قيد الحياة. ولم يكن هناك أي مصدر للبروتين إلا جثث زملائهم وأهلهم الذين قتلوا في الحادث. من هنا إقتضى الأمر الاسراع بنبش الجثث، لأن تراكم الثلوج وضعفهم المتزايد سيزيدان في صعوبة الوصول إلى هذه الجثث آجلاً. وبعد حين، تصل النجدة(طائرة هليوكوبتر)، وعندما يتأمل الطيار الأحياء الناجين والمكان، يرى أمامه عظاماً آدمية متناثرة على مدى البصر، وكأن قطيعاً من الوحوش المفترسة قد داهم تجمعاً بشرياً، فاستغرب الطيار، لكن الأحياء استغربوا بدورهم من استغرابه، فقد أكلوا كل جثة استطاعوا إخراجها من الثلوج، وبين الجثث أهلهم وأولادهم وزوجاتهم كما أسلفنا. لقد استغربوا من استغرابه لأنه لم يتعود، بينما هم تعودوا على الأمر وتآلفوا معه. أجل، فقد مات فيهم شيء حتى تعَوَّدوا على ما يجري دون مبالاة !... وها أنذا بدوري أتساءل، طالما أن الشيء بالشيء يُذكر: ألم يستأصل هذا النظام في شريكنا العربي، الذي عُرِفَ عنه بالنخوة، شيئاً من هذا القبيل تجاه محنة أخيه الكردي طيلة عقود خلت ؟.
قصارى القول، نحنُ اليومَ جميعاً، محكومون بالأمل على حد قول سعدالله ونوس، ومدعوون للتأمل بعيني زرقاء اليمامة، لبناء غدٍ أكثر إشراقاً وألقاً لفلذات أكبادنا، وهذا يقتضي بداية، التحلي بروح التسامح والتفاهم بين جميع أطياف الشعب السوري، على إختلاف ملله ونحله، ونبذ ثقافة "البعث"المدَمِّرَة، القائمة على تخوين المختلف، ونسف مرتكزاتها المترسخة في أشد الفترات شؤماً في تاريخ سوريا الحديث، أعني الحقبة التي أضحى الانسان فيها أسير أوهام ايديولوجية(يتامى البعث) ومن والاهم في جبهتم العتيدة، و خطاباتهم البائسة التي كان يبثها إعلامهم المزيف أو تروج لها أبواقهم، زاعمة تارة أن سوريا هي جبهة الصمود والتصدي وتارة أخرى أنها قلعة المقاومة أو الممانعة، إلى آخر هذه التُرّهات التي أبتلي بها السوريون خلال عقود. ولعلنا أحوج ما نكون اليوم، لبناء ثقافة بديلة، تقوم على أساس الاعتراف بالآخر، وفق قيم ومبادىء المساواة والعدل والحرية والكرامة والتآخي، كيلا نخيّب آمال الجماهير الثائرة في وجه نظام الاستبداد والطغيان والعبودية، وهي تهدر بملء حناجرها صباح مساء: (واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد). لكنْ، علينا ألاّ ننتظر الغد الموعود والمأمول، لأنه لن يطل علينا إلا بالشكل الذي سنصوغه منذ الآن وبالشكل الذي نرتئيه. من هنا، فنحن مسؤولون تاريخياً عن مستقبل أجيالنا القادمة، التي ستحكم علينا بما ستصنعه أيدينا من أجل غدهم المنتظر.
غني عن البيان أن نتعظ بعبرة غابرييل غارسيا ماركيز، حين مرّت عليه ذات يوم أزمة مالية، فأراد أن يتصرف بحُلي شريكته لتجاوز المحنة، لكن المجوهراتي الذي تسلم منه أقراط الألماس وعقد الزمرد وخواتم الياقوت، تلك التي تلقتها زوجته(ميرثيدس) بدورها من أهلها عبر السنين، وبعد فحصها بصرامة طبيب جراح حاذق، أعادها إليه بحركة فيرونيكية**، وهو يقول: هذه كلها مجرد قطع زجاج !.
فكان وَقْعُ الخبر كالصدمة بالنسبة لماركيز ... حريٌ بنا إذاً أن نتساءل بدورنا في الختام: هل سيخيب البديل القادم آمالنا، طالما أن قَدَرُ الثورات أن تُخْتَطف على حَدِّ وصف ابراهيم الكوني؟. سؤال قد لا أتمكن من الاجابة عليه الآن، لكنْ أطرحه برسم الاجابة ليس إلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عنوان قصيدة للشاعر(غونتر غراس)، ارتأيت أن أقتبسه، لما له من صلة بموضوعنا.
** حركة مصارع الثيران، حين يمسك فيها الرداء الأحمر من طرفيه بكلتا يديه، كي يتفادى ضربات الثور الهائج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك معنا برأيك